23 مايو 2008

الطائر المحلق

ليست المشكلة في التحليق الأحادي لهذا الطائر، اذا كان يجيد الطيران، أو كان على الأقل يجيد عملية الهبوط الاضطراري على الماء، وقتئذ يستطيع ان يحول المسار ، أو أن يخادع السماء، التي أصابها انفلونزا الطيور ، فشحب لونها واصفر ، وتمنت صغار النوق لو تفجرت الأرض ينابيعاً، فقد اشتد بهم القحط والظمأ، بينما أسر هو في نفسه سراً لم يبح به ، وجاهر وهو يتضور جوعاً، أن لو كان يملك من الدنيا مثقال ذرة من خردل، لاستبدله بشيء من تبغ قليل، هنا كفت صاحبته عن تذكيره بالوعود، بعدما استيقنت أن الطيور، والطيور فقط ،هي التي تغدو خماصاً وتعود بطانا
همهم وهو يحدق في ذاته، إذا ليست المشكلة في انانية او ذاتية او نرجسية ذاك الطائر ذو التحليق الأحادي، أجابت وقد أسرت النجوى ، بعدما تكشف لها بعض سر من أسراره: نعم، المشكلة في إما أو ، وإذا استبعدنا إما، فلن يكون أمامنا من خيار إلا أو ،قال وقد تبسم ضاحكاً من نجواها: المشكلة يا صديقتي تكمن في التناقض الصارخ بين السعي المطلوب، وبين قول جدتي : أن من خرج من داره قل مقداره
حين ذاك أدركت حجم المأساة بوضوح، وقد تجلى لها سره المخفي كاملاً، وحين بلغ تعاطفها مداه،قالت: لم يتبق سوى أو
أطلقت سهما من سهام عينيها القاتلتين نحوه ، فخر الطائر مترنحاً ، دون أن يتعجب من تصرفها، أو أن يصدر عنه اي عتاب

8 مايو 2008

عم محمد الساعاتي...


الذي سافر بعيدا . أبعد من الأفق . حل به التعب . قال : الدهر . قال : التراب . بكى قال : العدم أمسك بجذع شجرة . سقط . قال : الألم . الذي حل
به التعب كان عظيما . ابتعد حيث لا أراه . صوت ذو شجن أخبرني أنه راحل إلى الأبد
___________

ربنا يعوض عليك يا عم محمد
قال باكياً وهو يلملم الزمان المبعثر حوله بحسرة وأسى : تعيش يبني
عم محمد الساعاتي، صاحب الدكانة الصغيرة لتصليح الساعات والتي بالكاد تستوعب أدوات التصليح، رجل رائع وديع، لم تكن تفارقه الابتسامة، وهو الذي طحنته الأيام طحناً
عم محمد الساعاتي وهب ساقه اليمنى للوطن، في حرب الاستنزاف، واتكأ على عصى،كنا نتآمر عليها في الصغر فنخطفها لنضحك، فكان يضحك قائلاً: "اليهود أخدوا رجلي هستخسر فيكم العصاية" ، ثم يصرخ منادياً: العصاية يا ولاد الكلب، فقط كي يضاحكنا ولا يحرمنا حلاوة المؤامرة
عم محمد ذاك الرجل الذي تخطى السبعين ببضع سنين، كان إذا ضحك ضحكت قلوبنا نحن الشباب الملتف حوله يسمع من حكاياته حكايات

حبيت في شبابك يا عم محمد
يااااااه يبني، ويسعل ضاحكاً بفم خال الا من سنة فضية قص علينا حكايتها مراراً ويقول: تصدقوا يا ولاد ان أول بنت حبتها كانت بنت يهودية
وحين يلاحظ الدهشه على الوجوه ، ويلاحظ أن أبصارنا اتجهت صوب الساق المبتورة، يضحك بفرحة طفل ، ويتمهل في الحكي كمل يا عم محمد ازاي دا حصل
كانت بنت صاحب المحل اللي كنت بشتغل عنده زمان أوي، بنت ميخائيل جاكوب السعاتي، دا كان اشهر سعاتي في البلد كلها ، الشارع دا كان اسمه في الاساس شارع يعقوب الساعاتي، وتغير بعد العدوان الثلاثي لشارع الساعاتي ، كنت لسه صغير يا ولاد ، بس والله يا ولاد جاكوب دا كان راجل طيب، رغم انه يهودي ابن كلب، حين يقول عم محمد ذلك نضحك جميعاً من مفارقة التناقض
عم محمد الذي سب اليهودي جاكوب، لم يكن يحمل ضغائن من ذلك النوع ابداً
لم أكن تجاوزت السادسة من عمري حين تشبثت ممسكاً بالساعة باكياً لوالدي: وحياة العدرا يا بابا تشتريلي الساعة دي، حاول والدي باللين ان ينحيني عن رغبتي ، وأن يشرح لي أن هذه الساعة ليست للبيع ، هذه ساعة زبون، ولما استيأس مني ، ولم يجد مني استجابة،لطمني لطمة على وجهي فوقعت، فضمني عم محمد الى صدره معاتباً والدي في رقة، ثم أهداني ساعة بعقارب، وأقسم ألا يأخذ مقابلاً ، وكنت من حين لآخر أذهب له فيعلمني كيف أتعرف على الوقت، عم محمد قال لي يوماً: حين بدأ الشد والجذب اللاهوتي بيني وبين اقراني المسلمين : يا مينا يا بني كلنا عيال الله
عم محمد الذي لم تكن تفارقة الابتسامة ، دكت شرطة المرافق كوخه الصغير ، فتبعثر الوقت في أرجاء المكان
ولسه بتحبها يا عم محمد

يضحك بقلب شفاف شجي، يا بني اذا توقفت بطارية الساعة في ايدك ، اياك تفكر ان الزمن قد توقف
عم محمد الذي لم تشفع له تضحياته، ولم يشفع له الكبر، ترك الدنيا ورحل، نعم تركها ورحل، نعم تركها ورحل

1 مايو 2008

محمد محمود العدوي/أفندم


محمد محمود العدوي
أفندم

تقدم الرائد محمد محمود العدوي بخطى عسكرية واثقة، وعلى بعد متر ونصف المتر توقف أمام القائد بثبات،ملقياً التحية العسكرية
*****
تخرج محمد محمود العدوي من الكلية الحربية سنة 1996م، بتقدير عام جيد جداً،ألحق بأكثر من بعثة تدريبية في الخارج ،اجتازها بتفوق مبهر
لم يقتصر العدوي على مجاله العسكري فقط، كما هي عادة طلبة وخريجي الكليات العسكرية، بل كان على قدر لا بأس به من الإطلاع والثقافة
العدوي كان أسمر البشرة،متوسط القامة_ أو على وجه الدقة إلى الطول أقرب_،مفتول العضلات في غير تكلف،كانت في ملامحه وسامة وان بدت ممزوجة بحدة الصلابة العسكرية

*********
في المساء استقل القطار عائداً إلى بيته،فراح يسابق الزمن في لهفة وشوق للقاء زوجته الشابة نور . ستة أشهر يا نور لم ألتق بك ، ستة أشهر ولم أرتو من رحيق شفتيك،ستة أشهر يا فتاتي ولم أر عينيك السوداويين،إن خمسة أيام فقط كانت هي كل ما قضيناه من شهر العسل، بالطبع يا فتاتي لم تكن كافية أبداً، ولكن ماذا كان عساي أن أفعل...؟
********
أولج المفتاح في الباب،وراح يضرب الجرس في آن ، همت نور لتفتح،لكنه كان قد سبقها،حين رأته صرخت في فرحة،وقفزت إليه كقطة رقيقة،لم تصدق نفسها،هو لم يخبرها أنه قادم، أراد أن يرى فرحة المفاجأة في عينيها،ألقى بحقيبته على الأرض،وتعانقا طويلاً اعتصرها بقوة ،حتى ذابت بين يديه،أفلتت منه،بغنج ودلال قالت: "مش كنت تقول يا حبيبي كي أعد لك ما لذ وطاب من الطعام" تأملها بابتسامة وقال : أنت كل ما أشتهيه من الطعام والشراب يا أميرتي .لم تدم السعادة إلا يومين وتم استدعاءه في عجالة، وكانت تلك أخر سعادة يحظيان بها
لم تكن خطى الرائد محمد محمود العدوي إلى مكتب التحقيقات خطى واثقة ثابتة هذه المرة ،بل كانت خطواته مرتعشة مهزوزة، فهذه أول مرة يتعرض فيها للتحقيق ، أخذ يقول في نفسه أي مصيبة جنتها يداك يا محمد ..؟
اسمك ...؟
محمد محمود العدوي
سنك ..؟
33 سنة
الرتبة العسكرية ..؟

رائد

بحكم اشتراكك في إعداد الخطة (606أ) فأنت مطلع على فحواها كاملة، أليس كذلك ؟
بلي سيدي

أخذ المحقق نفساً عميقاً ونفثه ثم قال : الخطة على جهاز الكمبيوتر الخاص بك ؟
نعم ولكنها مشفرة ولها رقم سري لا يعرفه إلا أنا، والمقدم أحمد رضوان
ما هي حدود علاقتك بالجندي المجند عبد الهادي صبري المهدي؟
علاقة رئيس بمرؤوسيه ؟
ما هي أخر مهمة أوكلتها إليه؟
إصلاح عطل الشبكات الداخلية للقسم، بحكم تخصصه في الاتصالات والشبكات

متى كان ذلك ؟
قبل أجازتي الأخيرة بيوم واحد

هل لاحظت عليه ميول إسلامية متطرفة ؟
رغم أن الدين لم يكن ليشغل الرائد محمد العدوي كثيراً، لكن الدين رغم كل شيء كامن في اللاوعي عنده،ولم يتسرب من وعيه بالكلية، فكان يصلي أحياناً، ويضيع غالباً،
لذلك استفزته صياغة السؤال على هذا النحو، فأجاب مستنكراً : إسلامية متطرفة، ماذا تعني بالضبط ؟
عدل المحقق من صياغة السؤال وكأنه تنبه أقصد ميول متشددة متطرفة؟
إذا كانت إقامة الصلوات في أوقاتها تطرفاً وتشدداً، فهو إرهابي حتى النخاع فقد كان حريصاً على ذلك جداً

حدق المحقق فيه بغيظ ، وسأله قائلاً : هل دار بينكم أي نقاش أو أي حوار خارج نطاق المأموريات المكلف بها ؟
نعم كان يحدث ذلك بصورة نادرة أثناء فترات الراحة ، كان يدعوني أحيانا أن أصلي معه ، وكنت أحياناً أفعل،كانت أخلاقه تجبرني على احترامه

لم يعد الرائد محمد يعرف هل بات يدافع عن نفسه، أم عن الجندي عبد الهادي، ثم عن ماذا يدافع في الأساس؟ ما الأمر ؟ تشتت ذهنه ، وبدا التوتر يظهر جليلاً في نبرات صوته ، لم يعد يتذكر مما دار بينه وبين عبد الهادي من نقاش إلا مقولة عبد الهادي التي كان يرددها دائماً ( لابد لنا أن نموت ، فلكل أجل كتاب، ولابد لنا أن نعود، فلكل شيء ميعاد)

ولماذا لم تخبر القيادة بذلك ...؟
لأني لم أر في تصرفاته ما يدعو للشك أو الريبة في أمره ، ما الأمر يا سيدي ؟ فقد بت مشتتاً ، وغير قادر على استيعاب الأمر
بعد ثلاث ساعات متواصلة من التحقيق أجاب العميد جمال بهاء الدين بسخرية وغضب في آن انها كارثة يا سيادة اللواء محمد محمود العدوي كارثة، ثم أردف لقد فك الجندي عبد الهادي الشفرة الخاصة بالخطة (606أ) من على جهاز الكمبيوتر الخاص بك ، وقام بإرسالها عبر الميل لجهة مجهولة، وهرب من الخدمة العسكرية ، هل فهمت الآن حجم الكارثة

تمتم الرائد بكلمات هو ذاته لم يفهمها لكن العميد باغته قائلاً: بناء على إهمالك الجسيم، وعدم إخطارك القيادة بشأن تصرفات ذاك الجندي، مما ترتب عليه تسريب معلومات عسكرية سرية في غاية الخطورة ، فأنت مبدئياً وإلى أن نتثبت أنك لم تكن شريكاً معه
مفصول نهائياً من الخدمة ، ممنوع من السفر مدة ست سنين ، حجبت عنك مكافأة نهاية الخدمة
*********
بات مذاق كل شيء مراً عسراً على الهضم، وارتدت الدنيا عباءة قاتمة السواد حالكة، وانطفأت مصابيح السماء، وكأن الليل أمسى سرمدا، حاول جاهداً أن يلتمس من زوجته نور نوراً ، لكن الصدمة كانت فوق الاحتمال
**********
بعد حوالي سنة ونصف تقريباً ، دوى انفجار رهيب هز الأرض هزا،قتل خمسون وقيل أكثر ، وجدوه هناك صريعاً، وقد تشرذم إلى أشلاء، قال شهود عيان: إن احدهم كان يردد أثناء فراره: ( لابد لنا أن نموت ، فلكل أجل كتاب، ولابد لنا أن نعود، فلكل شيء ميعاد)