الإنسان كائن ضعيف متقلب الأجواء متغير الطباع ، تجده يسلك سلوكا حسنا وآخر سيئا ، تجده خيّراً ثم ما تلبث أن تجده شريراً ، فهو لا يمكث على وتيرة واحدة ، يغضب يهدأ ، يفرح يحزن ، يقسو يحنو ، فهو بذلك مجموعة من المتناقضات المتشابكة المتداخلة التي يصعب الفصل بينها ، والأداة أو الوسيلة التي كلفت الفصل بين تلك المعتقدات والسلوكيات والتصرفات المتباينة والمتداخلة هي
( العقل ) . إذ أن العقل هو الأداة المسيطرة على النوازع والرغبات والأفكار والسلوكيات وكل المتناقضات التي أشرت إليها ، والعقل هو المهيمن عليها ، اقصد ( من الواجب أن يكون هو المهين عليها ) ، ولما كان العقل هو مناط التكليف ، والإنسان ما حمّل الرسالة وكلف بالفرائض إلا لأنه يملك هذا العقل ، كان لزاما أن من يملك العقل يملك حمل الرسالة ومن لا يملكه لا يملك حملها ، فهذا العقل الذي ملكه الإنسان هو الميزان الذي يفاضل بين الأمور ويرجح بينها ، وهذه هي وظيفته التي خلق من أجلها ، فالمجنون لا يملك العقل ( آلة التفكير ) وهو بالتالي لا يميز بين الأمور ولا يفاضل بينها، ولا يتدبر فيها، فيصل بناء على مقدمات ونتائج إلى الأصلح والأفضل من بين تلك الأمور ، ولكن إذا افترضت أن مجنوناً ( صدق في قوله ) (وكذب عاقل في قوله ) هنا نقول: في هذا الافتراض أن المجنون عندما صدق في قوله لم يكن يستطيع إلا أن يصدق ، وحتى لو كان كذب في قوله فهو لا يستطيع إلا أن يكذب، فهو لم يفكر لماذا نطق فصدق ؟ ولماذا إذا قال هذا الكلام سمي كلامه كذبا ، بينما العاقل على خلاف ذلك تماما ، فهو يصدق بتفكيره ويكذب بتفكيره، وهنا قد يقول قائل إذن العقل لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة فهو قاصر مادام قد يصل إنسان بعقله إلى الكذب أو إلى غيره من الأخطاء ..أقول له وأجزم بأن: ( كل فكرة أو تصرف أو قول بعيد عن الهوى هو نتاج التعقل)أي نتاج عملية التفكير المبني على مقدمات ونتائج ، فالعاقل إذن إذا كذب لم يكن يحسن عملية التعقل أي التفكير بينما ( عقله ) غير قاصر عن هذا التفكير، وبالتالي فهناك فرق بين ( العقل ) كآلة أو وسيلة لا تخطئ لأنها مناط التكليف ، تحملت عبء الرسالة ، ولا بد لها أن تكون كاملة غير قاصرة لأنها ستحمل رسالة من رب العزة وهي رسالة كاملة .. والناقص لا يحمل كامل ...أما التعقل وهو ( العملية الفكرية المبنية على المقدمات والنتائج البعيدة كل البعد عن الهوى ) مصداقا لقوله تعالى(ونهى النفس عن الهوى)
والإنسان قد يصل بتعقله أي بتفكيره وبعده عن الهوى إلى قيم الحق وقد لا يصل ، لأن الإنسان لا يستطيع أن يجمع كل الأدلة وكل وجوه الحقيقة في آن واحد ( أي لا يستطيع أن يجمع كل المقدمات الصحيحة ويدخلها إلى عقله فينتج نتائج صحيحة بل قد يدخل مقدمات يظن أنها صحيحة وهي ليست كذلك رغم بعده عن الهوى فينتج نتائج غير صحيحة ) ولذلك كان لابد من شريعة من رب العزة تكمل عملية التعقل وتصل بها إلى ( الكمال التعقلي )أي الكمال الفكري( فالشريعة منحت العقل كل المقدمات الصحيحة والعقل بناء على ذلك لن ينتج إلا نتائج صحية).. والعقل والشريعة متحدان لا تضاد بينهما على وجه الإطلاق وإذا حدث وقال أحد أن هناك تضاد بينهما نكون بين أمرين :- إما أن يكون تعقله غير صحيح أي مبني على مقدمات غير صحيحة وبالتالي ينتج العقل نتائج غير صحيحة ( بافتراض البعد عن الهوى) ..- أو أن يكون ما نسب إلى الشريعة ليس منها في شيء، أي ما بنى تعقله عليه وافترض انه من الشريعة ليس من الشريعة بل دخيل عليها ...وقد يسأل سائل هذا السؤال إذا كنت تقول أن العقل كامل وغير قاصر فلماذا لا يصحح ما يدخل إليه من مقدمات غير صحيحة ؟؟؟!أقول إذا كان على العقل أن يصحح المقدمات لينتج نتائج صحيحة لكان ذلك خطأ في العقل ذاته وذلك للآتي :لو وضعت في آلة حاسبة أن 1+1= 3ثم وجدتها من ذاتها أثناء ما كنت تجري العملية الحسابية تصحح لك هذا الخطأ
ويصبح الناتج1 +1= 2 لكانت هذه الآلة فاسدة
حيث أنك قد تضع فيها أن 1+1=2فتجدها تعطيك ناتجا آخر ومن هنا نخلص إلى أن العقل يخرج النتائج بناءً على المقدمات الموضوعة فيه، فإذا وضعت في عقلك مقدمات تحفزك على القتل وغذيته بها إلى حد الإشباع وقتلت هنا لم يخطئ العقل ، ولهذا فالشريعة تأتي بالمقدمات الكاملة ليخرج لنا العقل نتائج لا تشوبها شائبة و إلا إذا افترض أن العقل قاصر ووضعت به المقدمات التي جاءت بها الشريعة وأنتج نتائج قاصرة فهو غير ملام ما دام هو قاصر والتشريع كامل ..الشريعة إذن هي المقدمات الصحيحة والعقل هو المنتج الوحيد لنتائج صحيحة .في النهاية نؤكد أنه إذا حدث تعارض بين الشريعة والعقل نكون بين أمرين :1- المفترض أنه من الشريعة ليس منها في شيء .2- أن التعقل فاسد ومبني على مقدمات غير صحيحة .
فالشريعة عاقلة والعقل يهتدي بها لينتج نتائج لا تشوبها شائبة
اسامة يس
2002