لم يتبق على آذان الفجر سوى نصف ساعة أو أقل قليلًا؛ لكن ما شأن ذاك الشاب الثلاثيني بصلاة الفجر، وقد قضى ليلته في أحضانها ولم يغتسل بعد، إن آخر ذكرياته مع الصلاة عمومًا كانت منذ ما يقارب سبعة عشر عامًا، لكنه أكد لي أنه لم يكن حتى في ذلك الزمان قد صلى الفجر، أكد لي أيضًا أن قبلتها حين غادرته كانت قبلة باردة، وأنها أي القبلة كانت تشبه نسمات الهواء البارد التي تتسلل عبر نافذته، وأنه لا زجاجه الخمر ولا حرارة جسدها أفلحتا في تدفئة ضلوعه الباردة، ثم عقب مبتسما لكن أي من هذا لم يكن ليؤثر على معنويات خنجري الذهبي،ثم ابتسم.
حين سمع مواء القط يبكي كالأطفال الرضع، سبه بأمه: اخرس يا ابن الشرموطة، ثم أشعل سيجارته وغاص أسفل اللحاف، لكن مواء القط كان مغايرًا هذه المرة، كان بكاء لا مواء، قام من سريره بحذر لا يعرف أسبابه، ارتدى الروب ديشامبر الرمادي الذي ورثه عن أبيه وكأنه يتهيأ لقادم الأحداث، فتح الشباك بحذر، ألقى نظرة للأسفل إنه طفل مكوم بجانب البناية، كذب عينيه مرارًا، ثم قرر أن ينزل بنفسه ليحسم الأمر.
حين حمل الطفل بين يديه سكن الطفل، تلفت منذر حوله وكأنه قد ارتكب جريمة، ثم شخر في سره مرة وصرح بأخرى، صعد السلم بحذر ثم توارى مسرعا في "بير السلم" حيث بدا ظل الشيخ محرم وزوجته أم هند وربيبته هند، متجهين صوب الجامع.
صعد السلم على أطراف أصابعه، وضع الرضيع في منتصف السرير بعدما أحاطه بمجموعة من الوسائد من كل اتجاه، ظنا منه أن الطفل ربما يتقلب ويسقط من فوق السرير، وأوأ الطفل قليلًا، هدهده منذر بغريزة أبوة كامنة، راح الرضيع في سبات عميق.
حين تنشف منذر جيدًا وهم أن يخرج من الحمام، تذكر أمر الرضيع، وقد أقسم لي أنه لم يتذكره أثناء استحمامه أبدا، وكان الشيخ محرم قد بدأ لتوه مكبرًا تكبيرة الإحرام الله أكبر، فقرر منذر ما كان قد قرره.
ضحك منذر وهو يرتدي لأول مرة الجلباب الذي أهداه له الشيخ محرم ذات حجة داعيًا له بالهداية، وتعطر بذات المسك المهدى إليه، رفع الطفل بهدوء إلى صدره، وهبط أدراج السلم، واتجه هو الآخر إلى الصلاة، لكنه لم يصل فقد كان الشيخ في التشهد؛ فانتظر خارج المسجد حتى يفرغ من صلاته، ثم دخل الجامع وقد تلقفته عيون المصلين بشره وتعجب.
اجتاز منذر الصفوف حتى وصل إلى الشيخ محرم ثم وضع الرضيع برفق أمامه، والجميع في ذهول وشوق، ثم ساد صمت مريب، قطعه منذر بتوجس قائلًا: وجدته أسفل البناية.
صرخ أحدهم: استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم ليه كدا يا بني حرام عليك.
وقال آخر: أعوذ بالله شاب صايع وأخلاق فلتانه أكيد دي النتيجة المتوقعة.
بينما أقسم جابر البواب وهو يدفس علبة سجائره السوبر التي كادت أن تقع منه أثناء الصلاة قائلًا:" أنا شفت ولية نازلة من عنده من يجي ساعة ونص كدا أستغفرك يا رب وكانت بتعيط، حصل ولا لا يا سي منذر بيه".
حين "شخر" منذر في الجامع أقسم لي أنه لم يكن يعرف أنه حين ذاك في الجامع، وأنه رغم كل شيء ليس بكافر ويوقر حرمة الجامع، لكن ما استفزه أنها لم تكن ولية ولم تكن باكيه، وأن الربط بين هذا وذاك يؤكد الظنون.
حين شخر منذر قال عم عبده الواد دا مش متربي ومفيش أمل إلا الاتصال بالشرطة تيجي تلمه وهناك ينفخوه وكل شيء يبان.
حين شخر منذر للمرة الثانية مردفًا بأحه كان الأمر قد خرج عن السيطرة، لكن حين صرخ الرضيع باكيًا صمت الجميع وقد أصابهم الوجوم،رفع الشيخ الرضيع إليه وهو يفكر فيمن ترضعه، وتمتم وقد عاد اللغط من جديد إن الله حليم ستار يا بني.
فقال منذر: أقسم بالله لا علاقة لي بالطفل ولا أعرف أمه يا شيخ.
تأمل الشيخ وجه الرضيع ووجه منذر، وكأنه يتقفى آثار الشبه بينهما، ولما وقر في قلبه ما وقر، حرك الرضيع يديه باكيًا؛ فظهر على رسغه صليبًا غائرًا؛ فارتعد وجه الشيخ ثم نظر، وكان منذر قد أقسم لي عشر مرات مؤكدًا أنه ما إن رأى الشيخ محرم ما رأى حتى "شخر".